البوكس تو بوكس .. Box to box

كل واحد فينا له ذكريات جميلة، دائما يفكر فيها وتظل بقلبه مهما تقدم به العمر. أيامنا الحلوة وسرها الباتع، تلك اللحظات العذبة التي لا تُنسي أبدا، فرحة ليلة العيد والثياب الجديدة، أول رحلة مدرسية مع الأصحاب، لعب كرة القدم في الشوارع والساحات، ليلة الأربعاء خصوصا لعشاق المستديرة وكارهي المدرسة ولحظاتها المريرة .

أنا وأنت وغيرنا، كنا من هؤلاء الذين ينتظرون تلك الليلة بفارغ الصبر. اليوم التالي يكون الخميس وبعدها اجازة الاسبوع حيث السهر واللعب والانطلاق، ومن جهة أخري مشاهدة مباريات دوري الأبطال الأوروبي والتمتع بكرة قدم بديعة تجعلنا متعلقين باللعبة الي حد الجنون .

مباريات الشامبيونز مع معلقينا القدامي كانت لها طعم اخر، الثعلب حمادة امام صاحب الحنجرة المميزة والتعبيرات الذكية، حط يا راجل، كرة عرضية مين يقااااابل، لاعب لاتيني والغمزة واللمسة السحرية، شوفوا لاعب الوسط ده من اصحاب الأربع رئات. العبارة الأخيرة بالأخص قيلت في كابتن مانشستر السابق روي كين، عرفناه بهذا اللقب بسبب سرعته وقوته البدنية ومجهوده المضاعف طيلة فترات المباراة .

تحدثنا في الجزء الأول من المقال " كرة القدم، لاعب ارتكاز" عن الارتكاز الدفاعي أو الهولدينج ميدفيلدر كما يُعرف في أوروبا. اللاعب الذي يجيد التغطية الخلفية وقطع الكرات ومن ثم الاضافة الهجومية اذا استطاع. ذكرنا ريكارد، ألبرتيني، دونجا، ميكاليلي، فييرا، توريه، وأخيرا بوسكيتس. وخلال السطور القادمة سنتحدث عن صيحة مختلفة في لاعبي الارتكاز، البوكس تو بوكس .

البوكس هو ارتكاز الكل في الكل، خط الوسط الذي يدافع ويهاجم ويفعل كل شيء. لاعب تجده أمام الدفاع يقطع الكرات، ينطلق بالكرة الي الأمام، يمرر ويرواغ ويسدد، يبدأ الهجمة وأحيانا يُنهيها في الشباك. روي كين كان واحد من هؤلاء، لذلك كان يُعرف في الأوساط الرياضية بأنه صاحب الأربع رئات، للدلالة علي مجهوده الوافر .

عندما نتحدث عن التطور في اللعبة يجب أن نذكر أريجو ساكي، الايطالي حليق الرأس الذي أضاف لكرة القدم الكثير. قبل ساكي، كانت معظم الفرق تلعب بليبرو أو لاعب متأخر قليلا خلف الدفاع أو أمامه. ساهم المدرب العبقري في توغل الجوانب التكتيكية داخل الملعب. فلسفة ساكي كانت تعتمد علي أن الفارق بين اخر مدافع وأول مهاجم 25 متر فقط. أي أن الفريق يهاجم ككل ويدافع ككل أيضا، هنا يأتي الابتكار وفعل شيء مختلف عن السابق .

اعتمد أريجو علي خط دفاعي رباعي مكون من كوستاكورتا، باريزي، تاسوتي، مالديني فيما يعرف بالضغط العالي. ثنائي الارتكاز في ميلان " ريكارد, أنشيلوتي " تميزا بالتكامل في المهام، انتهت كلاسيكية الوسط. لم يعد في ميلانو لاعب دفاعي واخر هجومي، الجميع كتلة واحدة. " لكي تفوز، عليك استخدام عقلك وقدمك، اختر خطواتك بحكمة وتذكر أن الفريق فقط من ينتصر" أريجو ساكي، مايو 1989 .

انتشرت طريقة اللعب 4-4-2 في العالم أجمع، انجلترا الأساس كما نعرف جميعا. كان هناك براين روبسون لاعب وسط المنتخب الانجليزي في كأس العالم 1990، عندما تعرض لاصابة، غضب بوبي روبسون كثيرا. والسبب أن براين نموذج حقيقي للارتكاز الذي يفعل كل شيء في الملعب، لا يدافع فقط بل يصعد الي الأمام أيضا. جاء خليفته في مانشستر روي كين، شكل ثنائي رائع مع بول سكولز، من الطبيعي أن يدافع لاعب ويهاجم الاخر، لكن اليونيتد كان يدافع ويهاجم بالاثنين معا، ارتكاز الكل في الكل أو البوكس تو بوكس في أقوي صورة له .

الطريقة الأخري في خطة 4-4-2 بالنسبة للاعبي الوسط، ارتكاز دفاعي وظيفته قطع الكرات وبناء أول حائط صد، والاخر هجومي يقوم بصناعة اللعب وتوزيع الكرات. أفضل نموذج لذلك مع ميكاليلي - زيدان في منتخب فرنسا، سيميوني - فيرون في منتخب التانجو. أو فيما يعرف بالرجل العادي + الرجل الخارق .

في يورو 2004، اعتمد المدرب الفرنسي علي ثنائي دفاعي بالوسط، ميكاليلي وفييرا، بينما تكفل بيريس باللعب علي الأطراف، وأخذ زيدان كل المهام الهجومية لحسابه. زيزو صانع اللعب رقم 10 المتحكم في أداء الديوك فيما يعرف بالبيج مان بينما كان ميكاليلي الرجل الصغير – ليس في الحجم طبعا – ولكن في الاضافة الهجومية .

خلاصة القول أن طريقة 4-4-2 كانت مناسبة جدا لظهور لاعب البوكس في الملاعب الأوروبية والعالمية. بعد تحديث اللعبة أكثر وظهور خطة 4-2-3-1، اعتمد المدربون علي اللعب بثلاث لاعبين في الوسط. التخصص في اللعبة قتل ارتكاز الكل في الكل. اصبح هناك ارتكاز دفاعي وظيفته التغطية الخلفية " هولدينج ميد "، واخر مساند يقوم بمساعدته ونقل الكرات الي الأمام " ديب لاينج ميد " وثالث هجومي بمثابة صانع لعب وفرص تهديفية " وسط مهاجم " .

جيرارد ولمبارد لا خلاف عليهما عند تقييم لاعبي الوسط، الثنائي كان يدافع ويهاجم بنفس الوقت في تشكيلة منتخب انجلترا، لم يكن الناتج الأخير مرضي للجماهير والاعلام الانجليزي. عندما جاء فابيو كابيلو أجبر أحدهما علي التمركز قليلا في الخلف بمهام دفاعية صريحة والاخر حصل علي المبادرة الهجومية، لمبارد لاعب وسط هجومي وجيرارد خلفه يدعمه .

هكذا التخصص في اللعبة، قتل كثيرا من النزعة الفردية وامكانية لعب دور البطل للاعبي الوسط ونجومه.

هناك جزء اخر سنتحدث فيه عن التخصص بشكل أكثر وضوحا وتكاملا، لكن يبقي السؤال الهام، هل انتهت مهام البوكس في كرة القدم ؟ الاجابة ستكون حتما بلا. فرغم تحول الكرة الي مجموعة من اللاعبين يشرف عليهم مجموعة من الفنيين، تناقصت الطفرات شيئا فشيئا الا أننا خلال الموسم الحالي أمام ظاهرة، المودرن بوكس تو بوكس ..

مروان فلايني، لاعب وسط يسجل 11 هدف خلال الموسم، 40 فرصة هجومية، 5 أسيست. مجهوده الهجومي يتحدث عنه، يجيد الاضافة ونسبة تسديده تصل الي 60 %، يسدد من كل مكان بالملعب.

دفاعيا، قام بعمل 60 عرقلة مشروعة من أصل 82. نسبة نجاحه في الصراعات الهوائية تقترب من 60 %. نحن أمام لاعب وسط يدافع ويهاجم وتجده في شتي أنحاء الملعب .

ارتورو فيدال، نجم اليوفي الأول لهذا الموسم وواحد من أهم اللاعبين الذين ساهموا في حصول الفريق علي لقب الدوري. سجل 10 أهداف، 8 أسيست، 73 فرصة هجومية. قدم الدعم الهجومي الناقص عند اليوفي خلال المباريات الصعبة .

دفاعيا، 109 عرقلة مشروعة من اصل 153، نسبة مرعبة. محراث يشق أرضية الملعب في الدفاع والهجوم، هدفه في مرمي تشيلسي بدوري الأبطال نموذج لمفهوم القادمين من الخلف في الكرة الحديثة .

يايا توريه، لاعب الارتكاز الدفاعي الذي يجيد اللعب الي الأمام. 7 أهداف خلال الموسم المحلي، 5 أسيست و 45 تمريرة خطيرة. لاعب تطور أدائه كثيرا بعد انتقاله للسيتي خصوصا علي مستوي الحس التهديفي والاضافة الهجومية .

دفاعيا، 28 افتكاك دفاعي من أصل 37، عدد قليل لكن نسبة عالية. يعتبر توريه اضافة لأي خط وسط في العالم، يدافع ويهاجم بنفس القوة، لياقة عالية ومهارة مميزة، مودرن بوكس تو بوكس .

اللعبة لا تتوقف، وكما تحدثنا عن ارتكاز الكل في الكل، سيكون محور نقاشنا القادم حول الارتكاز المساند " الديب لاينج ميدفيلدر " وأهميته في كرة القدم الحديثة. الريجستا في ايطاليا، والمايسترو الكاتلوني، والأنيق الأرجنتيـني.

وتبقي كرة القدم أعظم الثورات .