كرة القدم فكرة والفكرة أبداً لا تموت، يقول بيل شانكلي، يعتقد البعض أن كرة القدم لعبة حياة أو موت، هم مخطئون لأنها أكبر من ذلك بكثير، بينما يرد عليه بيب جوارديولا أثناء مؤتمر تدريبي سابق بالأرجنتين قائلاً، اللعبة بمثابة مسرح كبير، والكل يعرض أعماله، فن أمام فن، وفكر يصارع أخر، وفي النهاية، الملعب من يحكم والجمهور يستمتع .
لذلك اذا أردنا أن نضع عنوان للسنوات الأولي من كأس العالم وحقبة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، سندور في فلك منتخبات أوروبية كبيرة كالنمسا وايطاليا والمجر وفرنسا، والمرعب اللاتيني العريق منتخب الأوروجواي. واذا كانت هناك مدارس كروية وتكتيكية في تلك الفترة فسيكون الايطالي فيتوريو بوزو والنمساوي هوجو مايلز على رأس القائمة الفنية .
بوزو بفكره المتحفظ وتكتيكه المحكم الذي قاده الى انتصارات كبيرة، ومايزل العاشق للكرة الهجومية والمحب الى اللعب الأمامي والمنتقد الدائم لأفكار وطريقة لعب هيربارت تشابمان، لذلك مع ختام الجزء الخاص بصانع أمجاد أرسنال ذكرنا اسم المدرب النمساوي الكبير هوجو لأنهما كانا صديقين حميمين ولكن في كرة القدم ألد الأعداء !
وكما يحدث في كل فترة زمنية، هناك مجموعة على اليمين وأخرى على اليسار، وكما يوجد معسكر للحلفاء هناك أخر للمحور، وكرة القدم أيضاً تعج دوماً بالنقاشات والمباريات الفنية بين أنصار الكرة الهجومية التي تعتمد على المبادرة والفعل ومنافسهم الأبدي رواد الكرة الدفاعية التي تركز أكثر على الشق الدفاعي ورد الفعل باللعب على المرتدات .
لذلك كان اختيار كلاً من بوزو ومايزل له بعد مهم، أولاً، تكملة مسيرة تشابمان والربط بين انجازات المدرب الانجليزي وما يحدث على الساحة الدولية. وثانياً، تسليط الضوء على أهم كلاسيكو في كرة القدم القديمة، الكرة الايطالية المدعمة بالأفكار الانجليزية، ونظيرتها النمساوية الممزوجة بالشخصية المجرية والسحر الهولندي .
لذلك كانت مباريات بوزو-مايزل هى العنب المر والفاكهة صعبة الهضم رائعة المذاق لكل محبي ومتابعي كرة القدم في تلك الأيام. وكلما قرأت عن هذه الفترة وشاهدت بعض من أهدافها، أيقنت فوراً أن تفاصيل كرة القدم رغم تباعدها واختلافها الا أنها متشابكة ومترابطة الى حد كبير. ما نعيشه الان عاشه غيرنا من قبل، هناك فروقات وقفزات لكن الأصل في النهاية واحد .
الكرة في الأصل فلسفة، لا يهمني اسمك لا يهمني عنوانك يهمني الانسان ولو مالوش عنوان، كلمات أنشدها منير في رائعة حدوتة مصرية عن قيمة البني أدم في زمن أشد سواد من عصور الظلام القديمة والحرب المستمرة بين أصحاب هذه النظرة ومن يتعامل مع الانسان وكأنه سلعة أو رقم مع تفشي غول الرأسمالية المتوحش
. وفي رياضتنا شعرت وكأن المراد واحد، لا يهمني لون قميصك، لا يهمني اسم فريقك، يهمني طريقة الأداء ثم تحقيق الانتصار بالنسبة لفئة، والوصول الى المكسب بأي طريقة ممكنة بالنسبة لفئة أخري.
وتستمر النظريات هنا وهناك، بعضهم يقول أن الفوز فقط هو من يُذكر بينما ينادي الصف الأخر بالتأكيد على أن الانتصار يعيش في الكتب بينما طريقته تستمر عالقة في الأذهان. ومن رأي الى أخر وفكرة الى أخري، عاش عشاق أميرة البختة كرة القدم مع فترة ما بعد تشابمان على وقع فريقين، الأول دفاعي يسير على خطي ومباديء هيربارت مع بعض التعديلات، وأخر هجومي يهتم بالتمرير واللعب الى الأمام دون النظر الى الأمور الأخري .
وفي كل معلومة هناك مصدر لها وأخر طورها. فبوزو استفاد من تجارب ما سبقه وما فعلوه، وترك بصمته الشخصية ليحصل على بطولات لا تُنسي مع الأزرق الايطالي. ومايزل قدم مباريات عظيمة ووصل الى نهائيات متتالية سائراً على نهج مدربين عاشوا حياتهم أملاً في تحول كرة القدم من مجرد لعبة الى وسيلة تسعد الملايين من الكادحين والمتُعبين في كل أنحاء المعمورة .
لذلك المباراة هذه المرة لم تكن داخل أرضية الملعب فقط بين 11 لاعب ضد 11، ولكن أيضاً خارج الخطوط بين مدارس كروية وضعت اللبنة الاولي في عالم التكتيك وحفرت بجهدها وتعبها واصرارها مباديء وأفكار وقيم سار ويسير عليها حتى الان كل من قرر أن يعيش عالمه على مقربة من كرة القدم .
هذه الكلمات بمثابة المقدمة للتالي، وإذا حاولنا إستعادة بوزو- مايزل في الزمن الحالي سنتذكر حتماً مورينيو - جوارديولا بالكرة الدفاعية التي يقدمها الأول ونظيرتها الهجومية التي يعشقها الآخر. لأن اللعبة في النهاية مجرد فلسفة أمام فلسفة أخرى، وكل حقبة هناك من يتفوق لكن ليس بالضرورة أن نحكم في النهاية بموت الآخر .
التيكي تاكا، ليست المعضلة
بعد هزيمة بايرن ميونخ أمام ريال مدريد في نصف نهائي الأبطال، خرجت أقلام عديدة منها المتربص ومنها المتبني لوجهة نظر أحادية بأن الإستحواذ امر ممل وأن التيكي تاكا إنتهت وماتت ولا يوجد لها اي مستقبل. إتهامات صريحة وعبارات مهمة جداً لكن الرد عليها سيكون أسهل من تكرارها، حيث أن هذه الكرة قادت مدرب مثل بيب جوارديولا إلى 17 بطولة في 5 سنوات فقط .
وأن منتخب أسبانيا فاز ببطولتين يورو وبطولة لكأس العالم في فترة قياسية وصلت إلى 4 سنوات عن طريق الكرة الهجومية وفلسفة التيكي تاكا، كذلك إحتل برشلونة الأوساط بالطول والعرض عن طريق نفس الفكرة. لذلك إذا إعتقدت أن التيكي تاكا ماتت والهجوم إنتهى بعد هزيمة بايرن أو بارسا أو بيب فإنك أيضاً من المفترض أن تذكر نهاية الكرة الدفاعية حينما فازت أسبانيا / برشلونة بكل هذه البطولات،
وحتى بايرن، لا تستغرب، لأن بايرن ميونخ مع هاينكس كان ثاني أكثر فريق في أوروبا نسبة للإستحواذ بعد فريق برشلونة. لذلك حينما فاز البايرن الموسم الماضي بالبطولة، لم تكن النهاية حزينة للكرة الهجومية، صحيح أن رجل مثل هاينكس إستفاد من أسلوب لويس فان جال وأضاف بعد آخر خاص بالضغط المرتد من المنتصف كما فعل يورجن كلوب ليصبح البايرن فريق هجومي بنكهة ألمانية واضحة، لكن لكي نقول أنها هزيمة للكرة الهجومية فإن تشيلسي في 2012 مثال أوضح من بايرن بكثير .
التيكي تاكا مثل الضغط، خيار، أوبشن، أسلوب، له خصائص وشروط تحتاج إلى من يستطيع تطبيقها، وإذا فشلت المقدمات ستؤدي حتماً إلى نتائج سيئة. هناك عيوب وأخطاء إعترف بها جوارديولا شخصياً بعد المباراة الأخيرة، ويجب إعادة هيكلة بعض الأفكار وتسويقها لصالح الظروف الجديدة، وبالتالي القضية ليست أبداً موت طريقة بل كيفية تطبيق هذه الطريقة .
الإستحواذ ليس المشكلة، ولا الحل
يعنون الكاتب ماركوتي في مقاله بالإسبن، لماذا التيكي تاكا بريئة من كل حملات الهجوم الأخيرة ؟ ويعيد تصريح جوارديولا بعد الهزيمة، ليس الإستحواذ هو السبب، بل نحن السبب لأننا لم نلعب كرة هجومية بشكل صحيح ولم نستغل الإستحواذ لتوجيه السهام في طريقها السليم.
السيطرة طريقة نحو الفوز، ليست الطريقة الوحيدة ولن تكون الطريقة الخاطئة الوحيدة، تأخذ الكرة فإن خصمك يعود إلى الخلف أو يضغط إلى الأمام، أي يجري أكثر منك، أي توفر مجهود أكثر منه، أي تجري بذكاء كما يقول ساكي. وإذا تملك نوعية اللاعبين الذين يجيدون التمرير والتحرك فإن فرص فوزك تكون أقوى .
هناك بعض المشاكل الخاصة بنوعية اللاعبين، ريبري في مستوى مزري بعد الإصابة، روبين لاعب رائع لكنه يعشق المساحات، كروس ديب لاينج مميز لكن ليس أبداً بجودة تياجو ألكانترا، شفاينستايجر لاعب خبير لكن لا يجيد اللعب في الإرتكاز المتأخر. لام حينما يلعب يؤدي بشكل رائع لكن الجانب الأيمن يكون سيء، مارتينيز قاطع كرات مذهل لكنه لا يمرر بجودة بوسكيتس أو فيراتي أو بيرلو .
وإذا قلت، فيلعب بيب بطريقة هاينكس، سيكون هناك رد أيضاً، بأن هذه الطريقة من الوارد أن تنجح لكن مع إصابات مارتينيز وشفايني وريبري الكثيرة جداً هذا الموسم، كيف سيكون التطبيق ؟ هل سيستطيع البايرن ضرب الخصوم دون ريبري الذي يجيد اللعب المباشر ؟ وهل سيكون خط الوسط بنفس الصلابة دون مارتينيز وشفايني ؟
وحتى في وجود كل هؤلاء، الجميع ينسى أن الريال لعب مباراة مثالية، وأن جوع لاعبي الميرينجي نحو البطولة أكبر بمراحل من بايرن، الفريق الفائز بالنسخة الماضية، والتاريخ الذي يذكر إستحالة حصول فريق على اللقب مرتين متتاليتين بالنسخة الجديدة، كل هذا بدون ذكر العرضيات والكرات الثابتة التي تسببت في ثلاث أهداف من أصل أربعة .
هناك أخطاء كبيرة لجوارديولا، كذلك نوعية اللاعبين حتى الآن لا تناسب الطريقة الجديدة بشكل صحيح، لكن الألمان تعاقدوا مع بيب حتى يطبق لهم هذه الفكرة التي وضعت البارسا في مصاف الأساطير التي لا تتكرر كثيرا. التجربة تحتاج إلى مخاطرة وجهد لكن يجب تطبيقها من البداية حتى يعرف المدرب ماذا يريد الموسم المقبل، ومن يحتاج ومن يجب أن يرحل .
لماذا جوارديولا ؟
يقول ويلسون صاحب كتاب " قلب الهرم " أن جوارديولا ومورينيو نجحا في لفت الأنظار إليهما بشدة خلال السنوات الأخيرة. بيب إستطاع صياغة كرة جديدة وأضاف للهجوم كثيراً بينما مال البرتغالي إلى الدفاع لتظهر إستراتيجية الإستحواذ الراديكالي المتعصب في مقابل عدم الإستحواذ والدفاع المستميت من الجانب الآخر .
في التكتيك، لا يوجد شيء صحيح مطلق ولا توجد أخطاء عديدة. التكتيك بعيد كل البعد عن قوانين الكيمياء والفيزياء التي تشرح كل شيء، فقط هناك تطوير، إضافة، ثورة، تؤكد بعض الأمور وتنهي البعض الآخر، لكنها لن تستمر إلى الأبد. التيكي تاكا نجح مع الإبهار في برشلونة، ثم جاءت فترة ركود ليس بالضرورة أن تكون هي السبب .
ميسي في موسم 2011 كان يخطف الكرة من المنافس بمقدار 2 : 3 مرات في المباراة، هذا الموسم مثلاً يخطف الكرة بمقدار نصف محاولة كل مباراة، الدفاع في الماضي كان يستطيع اللعب بتقدم طالما هناك قلبي دفاع يجيدان التمرير وظهيرين يمتازان بالتحول من الهجوم إلى الدفاع، وأمور أخرى كثيرة لم تعد متوفرة في الفترة الحالية .
التيكي تاكا حصلت على شهرة غير عادية ووصلت إلى مستوى لم يتكرر من قبل كثيراً، فقط أجاكس السبعينات وميلان ساكي يدخلان ضمن القاعدة، بل نستطيع القول أن الكرة التي قدمها جوارديولا بمثابة وسيلة معينة من اللعب يطبقها مجموعة معينة من اللاعبين، من الممكن أن تعود السيطرة من جديد لكن تحتاج إلى عوامل عديدة، لأن الشيء العظيم من الصعب تكراره، وتكمن سر عظمته في كثرة النماذج التي تخرج من أجل إيقافه !
ريال مدريد إستحق الفوز بجدارة، وبايرن نال هزيمة كبيرة، هناك عوامل عديدة، لكن هل المدرب فقط هو السبب ؟ بكل تأكيد لا، وحتى لو هو فقط، لن تكون التيكي تاكا أو الأسلوب الهجومي، فقط هناك فشل في إستخدامه أو تطويره أو الإستفادة منه. في الكرة الحديثة، ليست الصورة الكبيرة هي المرادة بل التفاصيل الصغيرة، لذلك الكرة الهجومية بريئة من التهمة، هي سبب لكن الجزئيات الخاصة بتفوق فريق على آخر في أجزاء معينة من المباراة هي من حسمت الأمور .
بايرن نال أهداف من كرات ثابتة لكنه لم ينجح في فعل شيء كبير بالثلث الهجومي الأخير، جوارديولا إختار رافينيا في الذهاب ونجح في السيطرة لكنه إنهزم بفارق هدف، وفي العودة أشرك ما يطلبه المشاهدون وفشل بشكل أكبر وهُزم بالأربعة. الهجوم ليس المعضلة، بل إستخدامه بشكل خاطيء هو الإطار .